المقالات
الهدف والشراكة والسياسات – قصة محمد عبد الله القاز
نستعرض في هذه المقالة حديث خليفة القاز، رئيس قسم الدبلوماسية العلمية والتقنية في وزارة الخارجية، وأحد أبناء الجيل الثالث في الشركة العائلية عن رحلة جده محمد عبد الله القاز في ريادة الأعمال. تعتبر رحلة محمد عبد الله القاز مثالاً يُحتذى للأجيال القادمة من قادة الشركات العائلية، ليس من حيث تأسيس الشركة فحسب، بل في تنمية الأعمال وصولاً إلى المساهمة في ازدهار البلاد.
بقلم خليفة القاز
نستعرض في هذه المقالة حديث خليفة القاز، رئيس قسم الدبلوماسية العلمية والتقنية في وزارة الخارجية وأحد أبناء الجيل الثالث في الشركة العائلية عن رحلة جده محمد عبد الله القاز في ريادة الأعمال، حيث تعلّم خليفة من تجربة جده أسس إدارة الأعمال والابتكار وقدرة العائلة على نقل رؤيتها الطموحة إلى المجتمع. وأدرك خليفة أثر هذه التجربة الرائدة والإرث العائلي على قادة القطاعين الخاص والحكومي، وكيف يمكن للرؤى المستقبلية والتطوير وتنفيذ استراتيجيات طويلة المدى وعقد شراكات قوية مستمرة أن تسهم في نجاح الشركة وازدهارها.
بداية ريادة الأعمال
وُلد محمد عبد الله القاز في دبي أوائل عشرينات القرن العشرين لعائلة فقيرة جداً. وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، أظهر القاز روح المبادرة منذ سن مبكرة حيث تولى العديد من الوظائف وادخر القليل من المال الذي تقاضاه لاستئجار قارب صغير وشراء المنسوجات من السفن التي كانت تمر على طول ساحل دبي، وبيعه في دبي بأرباح منخفضة. وبين عامي 1937 و1941، جمع القاز عندما كان في سن العشرين حوالي 2000 روبية هندية من مشروعه التجاري الصغير، ما مثل أول خطوة على طريق نجاحه الذي أثمر لاحقاً عن تأسيس شركة الوكالات العربية المتحدة، ولكن أعماله واجهت صعوبات كبيرة أثناء الحرب العالمية الثانية عندما تعرضت دبي لمجاعة أثرت على المنطقة بأكملها.
أصبح القاز مسؤولاً عن عائلته وهو ما زال صغيراً في السن بعد وفاة والده، فانتقل مع والدته وجدته إلى المنامة عاصمة البحرين، وعمل هناك في النجارة في مدينة الدمام المجاورة في المملكة العربية السعودية. عمل القاز بجد لدعم عائلته التي كانت تعاني فقراً مدقعاً، وبعد نهاية الحرب بدأت دبي بالتعافي من المجاعة فعاد هو وعائلته إليها.
وفي ظل تحسن الظروف الاقتصادية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، توقّع القاز أن يزداد الإقبال على المنتجات الكمالية التي تتجاوز الضروريات الأساسية للحياة في دبي.
وبناءً على رؤيته، اشترى الليمون المجفف في المنامة وباعه للبقالين في دبي وحقق أرباحاً كبيرة، وكان ذلك بداية مشروعه التجاري التالي والذي حقق نمواً متسارعاً. ثم انتقل القاز إلى بيع مجموعة متنوعة من المنتجات مثل المنسوجات والمواد الغذائية ومواد البناء، واعتمد على علاقاته في المنامة والدمام والخبرة التي اكتسبها من خلال سفره إلى الخارج ليتفوق على منافسيه ويعزز أعماله.
محمد عبد الله القاز في الستينيات من القرن الماضي
المصدر: خليفة القاز
مرحلة النمو والتوسع
كان الدافع الأساسي للقاز تحسين جودة الحياة في مجتمعه إضافةً إلى تنمية أعماله، وكان يفكر في سبل تجاوز الصعوبات الناجمة عن المجاعة التي عانت منها دبي، حيث اعتبر أن من واجبه السفر إلى الخارج للبحث عن المنتجات المطلوبة. والتقى القاز في تلك الفترة برجل أعمال شاب طموح من دبي اسمه جمعة الماجد، وكان الرجلان يتشاركان الرؤية والقيم فقررا تأسيس شركة كان اسمها في البداية “شركة محمد وجمعة الماجد”.
أدرك القاز وجمعة الماجد أن العالم العربي سيتأثر بالتوجهات العالمية الكبرى في أوروبا وأمريكا الشمالية التي كان يتزايد فيها الطلب على البنية التحتية مثل الطرق المعبدة وشبكات الكهرباء ووسائل الاتصال، كما توقعا نمو الاستهلاك في المنطقة. وبناءً على هذه الرؤية، ازدهرت شراكتهما التي ركزت على الخدمات اللوجستية والتجارة وتوزيع المنتجات الأساسية. وتوسعت شركة محمد وجمعة الماجد لتشمل قطاعات غير تجارة المنتجات الأساسية مثل الإلكترونيات والسيارات ومواد البناء والأجهزة المنزلية وغيرها. كما كانت شركتهما أول شركة تبيع سيارات نيسان في دبي، حيث اشتهر القاز بقيادة سيارات نيسان في رحلات الصيد ما أبرز قدرات السيارة الكبيرة في الصحراء كاستراتيجية تسويقية، وهو ما لفت انتباه المسؤولين الحكوميين وأبناء العائلات الحاكمة في عدة إمارات.
صورة لفندق الخليج جراند تم التقاطها بين عامي 1958 و 1959
المصدر: خليفة القاز
بناء البلاد
أدرك القاز بخبرته الكبيرة وشغفه بالأعمال أن تطوير دبي يتطلب التعاون بين القطاعين الخاص والحكومي. كما أدرك أنه لا يمكن لشركة بمفردها القيام بهذه المهمة بدون الدعم الحكومي. اعتمدت الشركة على هذه الرؤية، فتم تقسيم المسؤوليات حيث تولى القاز التركيز على السياسات العامة فيما ركز جمعة الماجد على العمليات التجارية. وفي عام 1958، دخل القاز القطاع الحكومي، حيث تولى منصب عضو في مجلس بلدية دبي الذي أصبح اسمه المجلس التنفيذي لإمارة دبي في الوقت الحالي. وتم تعيين القاز، الذي عُرف بخبرته في المجال المالي، في اللجنة المسؤولة عن إدارة ميزانية حكومة دبي، كما أصبح عضواً في مجلس إدارة شركة كهرباء دبي التي كانت مسؤولة عن تنفيذ شبكة الكهرباء في المدينة.
بدأ القاز وجمعة الماجد، اللذين أطلقا على شركتهما اسم الوكالات العربية المتحدة، بتأمين رخص التوزيع الحصري من العلامات التجارية العالمية مثل “فيليبس” و”جنرال إلكتريك” و”نيسان” و”أوبل” و”كيا” و”فريجيدير” و”يوكوهاما تايرز” و”بيبسي” وغيرها. وكانت الشركة تعمل وفق استراتيجية محددة لا تتبنى سياسة التطوير فحسب، بل تعمل على دعم هذه السياسة وتعزيزها. وفي الوقت الذي كانت فيه حكومة دبي تقوم بتعبيد الطرق في المدينة وتوصل الكهرباء إلى المنازل، كانت الوكالات العربية المتحدة تبيع السيارات وأجهزة الراديو ومكيفات الهواء والثلاجات إضافة إلى المنتجات الاستهلاكية.
وركزت الشركة على دعم الجهود الحكومية إدراكاً من قادتها لدورهم في العمل وفق التوجيهات الحكومية الاستراتيجية باعتبار الرخاء الاقتصادي المنشود مسؤولية مشتركة بين القطاعين الحكومي والخاص.
عززت الشركة خلال هذه الفترة أعمالها في التطوير العقاري، لا سيما المباني السكنية والتجارية والفنادق. وفي عام 1957، تولت الشركة بناء فندق الخليج جراند، وهو واحد من أوائل الفنادق متعددة الطوابق على خور دبي. كما قامت الشركة بتنفيذ مبنى “فيليبس” الشهير في عام 1963 والذي كان أطول مبنى في دبي منخفض الكثافة السكانية في ذلك الوقت، ما ساهم في تمكين طفرة البناء التي شهدتها دبي على مدار العقود التالية. وكان دافع شركة الوكالات العربية المتحدة للتركيز على البناء توفير خيارات السكن الحديثة للوافدين إلى دبي بأعداد كبيرة، مثلما ركزت الشركة في بداياتها على المنتجات الاستهلاكية الحديثة التي أدركت أن الطلب عليها سيزداد بعد الحرب. وكانت الشراكة بين القاز وجمعة الماجد تقوم على رؤية واضحة وثابتة لتحويل دبي إلى مدينة حديثة.
بعد عقدين من الشراكة، قرر القاز وجمعة الماجد تقاسم تكتل الوكالات العربية المتحدة بشكل ودي في عام 1964، حيث تم تقسيم الأصول بينهما بالتساوي لكي يركز كل منهما على مسؤولياته بشكل منفصل. وواصل القاز عمله في القطاع الحكومي وركز على العمل الخيري. كما أصبح مستشاراً أول للشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي وقتها، ورافقه في زيارات رسمية إلى مصر وإيران والمملكة المتحدة إضافةً إلى اجتماعات امتيازات النفط في الولايات المتحدة. وعلى مدار الستينات، تولى القاز العديد من المناصب الحكومية بما فيها أول سكرتير لغرفة تجارة وصناعة دبي، وعضو في لجنة ميناء دبي لتحسين خدمات الميناء، كما أدى دوراً رئيسياً في المفاوضات بين دبي وأبوظبي لتأسيس اتحاد الإمارات المتصالحة. وبعد قيام دولة الإمارات في عام 1971، ساهم القاز في تأسيس المجلس الوطني الاتحادي ثم تم تعيينه نائباً أول لرئيس البنك المركزي نظراً خبرته الكبيرة في لجنة الميزانية بمجلس بلدية دبي.
القوة تكمن في الهدف
تعتبر رحلة محمد عبد الله القاز مثالاً يُحتذى للأجيال القادمة من قادة الشركات العائلية، ليس من حيث تأسيس الشركة فحسب، بل في تنمية الأعمال وصولاً إلى المساهمة في ازدهار البلاد. وتقدم لنا إسهامات رواد الأعمال وقادة المجتمع رؤى ملهمة عن العوامل التي تؤثر على النمو الاقتصادي والتغيير المجتمعي. كما تعتبر تجاربهم دروساً عن القدرة على مواجهة التحديات والابتكار والتفكير الاستراتيجي، والتي يمكن الاعتماد عليها لاتباع نهج مبتكر في القيادة وصنع القرار في وقتنا الحالي والمستقبل.
تاريخ النشر: xx-ديسمبر-2024
نبذة عن الكتّاب
خليفة القاز، عضو من الجيل الثالث في شركة عائلية و رئيس قسم الدبلوماسية العلمية والتقنية في وزارة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة.
خليفة القاز هو عضو من الجيل الثالث في شركة عائلية و رئيس قسم الدبلوماسية العلمية والتقنية في وزارة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة. يشرف خليفة على مهام والده في مجلس الإدارة، كما يعمل باستمرار على توثيق إرث عائلته. مهنياً، يقود خليفة العديد من المبادرات التي تهدف إلى دعم الإمارات بالأدوات الرئيسية اللازمة للتطور التقني. تخرج بدرجة امتياز من جامعة كولورادو بولدر في العلوم السياسية، ويدرس حالياً للحصول على درجة الماجستير في السياسة الدولية في جامعة ستانفورد.