حوار
من اللؤلؤ للبترول: ثقافة ريادة الأعمال الفريدة في الإمارات العربية المتحدة
تؤمن المؤرخة والمتخصصة في العلوم السياسية د. فراوكه هيرد-باي أن البنية القبلية الفريدة لمنطقة الخليج ساعدت على انتشار منافع النمو الصناعي بين أصحاب المصالح المحلية. و تستنتج د. فراوكه أن هذه القوى نفسها التي شكلت المنطقة على مدار القرن الأخير ستلعب دورًا جوهريًا في مستقبلها ومستقبل الشركات العائلية.
مقابلة مع د. فراوكه هيرد-باي
هناك تاريخ طويل من الأحداث الاقتصادية المحفزة لنشاط ريادة الأعمال في منطقة الخليج من مجتمعات صيادي اللؤلؤ التي كانت تقوم بحشد الموارد إلى العائلات التي اتحدت لاكتساب القوة في صناعة النفط. تؤمن المؤرخة والمتخصصة في العلوم السياسية د. فراوكه هيرد-باي أن البنية القبلية الفريدة لمنطقة الخليج ساعدت على انتشار منافع النمو الصناعي بين أصحاب المصالح المحلية. علاوة على ذلك٬ ترى أن هذه القوى نفسها التي شكلت المنطقة على مدار القرن الأخير ستلعب دورًا جوهريًا في مستقبلها ومستقبل الشركات العائلية.
بحثت فراوكه هيرد-باي لأكثر من خمسة عقود في التطور والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والدستوري للخليج وشبه الجزيرة العربية٬ فاكتسبت فهمًا عميقًا لتطور القوى الاقتصادية التي غيرت المشهد الصناعي في المنطقة وأثرت في الناس الذين يعتمدون عليها. مجال تركيزها هو الإمارات العربية المتحدة التي عملت فيها لمدة 39 عامًا في الأرشيف الوطني (مكتب الوثائق والدراسات سابقًا). ألفت عدة كتب وأكثر من 75 مقالًا في مجلات أكاديمية وكتب مشتركة وأوراق بحثية وأوراق ندوات منشورة وعروض.
س: د. هيرد-باي٬ لقد قضيتِ سنوات تبحثين في أصول الاقتصاد والبنية الثقافية والاجتماعية للإمارات العربية المتحدة. لكي نفهم تطور الاقتصاد الإماراتي بشكل أفضل٬ في رأيك، ما هي أهمية صناعة اللؤلؤ في المنطقة قبل الازدهار النفطي في القرن العشرين؟
لقد دشن الغوص على اللؤلؤ اقتصادًا تجمع فيه الناس وحشدوا مواردهم ونظموا أنفسهم كقبائل أو مجموعات عائلية لإرسال المراكب واستخراج اللؤلؤ معًا. وبنهاية القرن التاسع عشر٬ أصبحت أرباح صيد اللؤلؤ جذابة جدًا حتى أن الصناعة لم تعد تُدار بشكل تعاوني فقط. كان هناك حاجة لمستثمرين يمولون توسع الصناعة لشراء الخشب المستورد لبناء السفن على سبيل المثال. وكان من الضروري أيضًا توفير المؤن لفرق صيد اللؤلؤ وعائلاتهم خلال الفترة التي يقضونها على المراكب. لكن هذا النظام – برغم كل مخاطره – مكَّن بعض الممولين من أن يصعدوا بشدة٬ فجنوا الثمار مع المجتمع بأكمله حين كانت صناعة اللؤلؤ مزدهرة.
لكن عندما كانت إحدى الفرق تفشل أو يكون موسم معين ضعيف العوائد٬ كانت الديون النابعة من التمويل المدفوع مقدمًا تتراكم على أصحاب المراكب أو حتى تصبح عائلات الغواصين مديونة.
وعندما كانت الصناعة تعاني من ضربات كهذه، كان المجتمع كله يشترك في الشقاء المالي.
وقد وقع أهم حادث مع الاضطراب الاقتصادي الذي سببته الحرب العالمية الأولى والركود الاقتصادي الذي تلاه في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. فأثناء تلك الفترة نفسها٬ طور رجل أعمال ياباني اللؤلؤ المستزرع مما أدى لانهيار تجارة اللؤلؤ التقليدية وحدوث خسائر مالية ضخمة. عند تلك النقطة٬ بدا مستقبل الإمارات المتصالحة مظلمًا جدًا حيث إن تجارة اللؤلؤ كانت قد صارت مهمة جدًا للصحة الاقتصادية للمنطقة.
س: ما الأثر الذي أحدثته الأحداث الاقتصادية الكلية المدمرة التي وقعت في بداية القرن على العائلات في المنطقة؟
في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين٬ اعتقد الناس أن مستقبلهم الاقتصادي مرتبط بكسب المال وليس الاستخراج من البر أو البحر. وارتفع الطلب على العمل كمرشدين أو كحراس للحكام أو كسائقي جمال وطهاة للجيوليجيين الأوائل الذين قاموا بمسح الأراضي. وفي أبوظبي٬ كان الحاكم – الشيخ شخبوط – يساعد في توفير فرص للأفراد في مجال صناعة النفط. وقد استفاد الكثير من الرجال٬ بل وبعض العائلات٬ من العمل في الكويت والمملكة السعودية العربية وقطر فور بدء عمليات صناعة النفط هناك.
في خمسينيات القرن العشرين٬ تم تكوين “كشافة ساحل عمان المتصالح” للمساعدة في تأمين الأراضي الداخلية للأنشطة التي تقوم بها صناعة النفط. وقد ولد هذا النوع من العمل دخولًا جيدةً للعائلات ووضع الأساس لاقتصاد مزدهر قائم على النفط. وبحلول عام 1952 كانت شركة واحدة – شركة تنمية نفط الساحل المتصالح – قد عقدت اتفاقيات امتيازات نفطية مع الإمارات السبع المتصالحة جميعًا. وساعدت مدارس التدريب الخاصة بشركات النفط وكذلك مدارس التدريب التي في قوة الدفاع٬ بالإضافة إلى خبرات العمل٬ أفراد كُثر على تكوين علاقات مع الموردين الأجانب وبالتالي بدء شركاتهم الخاصة.
وقد سمح هذا التطور للكثيرين ببناء ثروات عائلية والعمل على أنشطة متعددة الأجيال في ريادة الأعمال.
س: كيف ميز هذا النشاط القطاع الخاص الصاعد في أبوظبي ودبي؟
الاختلافات بين أبوظبي ودبي أصبحت أكثر وضوحًا مع تسارع نمو صناعة النفط بشكل مذهل في أبوظبي عن دبي في حين أنه لم يلعب أي دور تقريبًا في الإمارات الأخرى. كانت الإنشاءات تتم في كل مكان في المنطقة خلال تلك الفترة. كانت أبوظبي بحاجة لمهندسين واستشاريين من البلدان الأخرى فدعو الخبراء من مختلف البلدان العربية وخاصة لبنان وفلسطين. واستقدمت دبي موظفين من شبه القارة الهندية للأعمال المكتبية للشركات المتوسعة في أعمالها. هذه التبادلات بين المشتغلين بالتجارة من بلاد مختلفة ساعدت دبي على إقامة أنشطة متنوعة للقطاع الخاص. كذلك سمحت القواعد والعلاقات الفريدة في أبوظبي بوجود مستوى من التجارة بين أبوظبي ولبنان ما زالت الكثير من العائلات تستفيد منه حتى اليوم.
هناك عامل حفز السلوك الاقتصادي وميز أبوظبي عن دبي٬ وهو – على سبيل المثال – إقامة جسر بحري من الكورنيش صُنع بحجارة نُقلت بالشاحنات من العين. كان هذا مشروعًا برعاية الحكومة من شأنه توفير الدخل للسكان المحليين. وكان الكثيرون منهم من أبناء القبائل الذين لا يعرفون القراءة والكتابة لكنهم تعلموا قيادة الشاحنات للعمل في قطاع النفط. وقد ساعد هذا الدخل الكثيرين منهم على شراء المزيد من الشاحنات أو تأمين القروض اللازمة للقيام بهذا. إذًا بعض شركات الإنشاءات الكبرى الموجودة اليوم بدأت بتسيير الشاحنات وتوسعت من خلال ريادة أعمال حقيقية فتفرعت للعديد من الأنشطة المتنوعة.
س: كيف يمكن لثقافة ريادة الأعمال هذه أن تشكل مستقبل مشهد ريادة الأعمال في الإمارات العربية المتحدة؟
تتعلم الأجيال القادمة من أفعال من سبقوهم٬ وفي الكثير من الحالات تريد محاكاتهم خاصةً فيما يتعلق بالنجاحات المهنية. لكن بالطبع اختلف الواقع الاقتصادي اليوم كثيرًا٬ فالأسواق نضجت والفرص طبيعتها اختفلت بشدة. الكثير من قادة الشركات اليوم سنحت لهم الفرصة للالتحاق بالجامعة والتعرف على الممارسات الفضلى للشركات في العالم٬ ولم يعودوا مضطرين لمواجهة الواقع الاقتصادي القاسي الذي ساد في أوائل القرن العشرين.
لكن حتى في سياق اليوم تدرك الأجيال الأحدث أن عليهم بناء العلاقات كما فعل أجدادهم والاستفادة من الفرص كلما سنحت لتحقيق النجاح في ريادة الأعمال.
هناك قوة أخرى تعيد تشكيل بيئة العمل في المنطقة٬ وهي الدور الذي ستلعبه النساء بشكل متزايد في أوساط ريادة الأعمال. وهناك نماذج بارزة في كافة الإمارات حيث تغيرت التوقعات التقليدية بشأن أدوار النساء في الزواج وداخل الأسرة بسبب الفرص التعليمية الممتازة التي تعزز مواهب واهتمامات الفتيات التعليمية. وتبني نساء إماراتيات كثيرات اليوم مسيراتهن المهنية خارج الشركات العائلية٬ وأحيانا يعدن لها فيصبحن مرتكزات هامة بثرواتهن من المعرفة المهنية والخبرات العالمية. النساء لديهن حافز كبير للعمل والتعلم بجدية والطموح للتقدم في مسار مهني قد يرجع بهم في النهاية إلى شركة العائلة لكنه أيضًا يجلب للشركة أشياءً جديدة وملهمة من خارجها. وستتزايد أهمية مساهماتهن في مستقبل الشركات العائلية في المنطقة مع الوقت.
تاريخ النشر: 4-يناير-2023
ضيف
د. فراوكه هيرد باي، مؤرخة وعالمة سياسة
ترى عالمة السياسة والمؤرخة د. فراوكه هيرد باي بأن الهيكل والتركيبة القبلية للخليج قد ساهمت في نشر ثمار النمو الصناعي في الأوساط المحلية. بخبرة تمتد لأكثر من خمسين سنة في البحث حول التنمية والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والدستوري للخليج وشبه الجزيرة العربية، تمكنت د. فراوكه من اكتساب فهم عميق للقوى الاقتصادية التي أحدثت تغيرات في النظم الصناعية للمنطقة والأفراد الذين يعتمدون على هذه النظم. تركز أبحاث د. فراوكه على دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عملت لمدة ثلاثة وتسعون سنة في الأرشيف الوطني لدولة الإمارات، الذي عُرف سابقاً بمركز الوثائق والبحوث في أبوظبي فور تأسيسه. ألفت د. فراوكه العديد من الكتب وأكثر من خمسة وسبعون مقالة نُشرت في مجلات أكاديمية، بالإضافة إلى كتابتها كتب مشتركة، وأوراق منشورة لندوات، ومراجعات كتب.