حوار
رحلة في الزمن والذاكرة: تاريخ عائلة أتاسي في الأرشفة الثقافية
تحفظ الأرشيفات الإقليمية التاريخ المحلي وتحمي الهوية الثقافية. تستعرض معنا شيرين أتاسي نشأة مؤسسة أتاسي وتفانيها المستمر لصون الفن والتراث العربي، مشيرةً إلى كيف تقوم المؤسسة، وبالأخص من خلال مشروع أرشيف الفن السوري الحديث (ماسا) في حماية الإرث الإبداعي وتعزيز الوعي العالمي حول تاريخ الفن في المنطقة.
مقابلة مع شيرين أتاسي
ليس الزمن وحده ما يهدد ذاكرة الشعوب وإرثها التاريخي، بل كثيراً ما يكون الصراع الإنساني هو الخطر الأكبر. فمنذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، تعرضت البلاد لدمار وخسائر تفوق الوصف.
منذ البداية، أدركت شيرين أتاسي وعائلتها ضرورة الحفاظ على تاريخ الفن السوري. وفي عام 2016، أطلقت العائلة “مؤسسة أتاسي” كمبادرة فنية غير ربحية تهدف إلى حماية الفن السوري والتعريف به وربط ماضيه الإبداعي بآفاقه المستقبلية، مستلهمة من إرث “معرض أتاسي” الذي أسسته والدة شيرين وخالتها، منى وميلاء أتاسي في عام 1986، وكان علامة بارزة في المشهد الفني السوري المستقل. واليوم، تقود شيرين أتاسي المؤسسة، وهي رائدة أعمال في الفن والثقافة، كما تحاضر عالمياً حول قضايا الفن والتراث والعمل الخيري في الشرق الأوسط.
ما الدافع لتأسيس مؤسسة أتاسي، وما هدفها؟
مع تصاعد الحرب في سوريا عام 2014 وما رافقها من دمار وموت ونزوح جماعي، شعرت العائلة بضرورة تقديم صورة مغايرة عن سوريا للعالم، بحيث تعكس الجانب الإبداعي والثقافي وقدرة شعبها على الصمود في وجه الظروف القاسية.
منذ بدأنا في جمع الأعمال الفنية عام 1986، ومواصلتنا تنميتها وتنظيمها على مدار الأعوام التالية، برزت لدينا فكرة مشاركتها مع جمهور أوسع عبر الإنترنت. ثم تطورت هذه الرغبة إلى رؤية أكثر شمولية. وبفضل خبرة والدتي التي تمتد لعقود في إدارة أحد أبرز المعارض السورية بالإضافة إلى شبكة علاقات الأسرة الواسعة، قررت العائلة إطلاق مؤسسة متخصصة للاحتفاء بالتراث الثقافي السوري والحفاظ عليه وترويجه، وتم افتتاحها رسمياً في دبي عام 2016.
منى أتاسي في غاليري أتاسي، 1993.
المصدر: مؤسسة أتاسي
يُعد أرشيف الفن السوري الحديث (ماسا) أحدث مبادراتكم التي تهدف إلى توثيق وحفظ أرشيف الفن السوري والمواد التاريخية للفنانين السوريين. كيف نشأت الفكرة؟
لاحظنا أن الفن السوري لا يحظى بتمثيل يعكس قيمته على المستوى الإقليمي والدولي، وكان نقص مواد البحث وصعوبة الوصول إلى الأرشيف الحالي تحدياً كبيراً ودافعاً رئيسياً لجهودنا. ومع تصاعد الحرب، ازداد الخوف من فقدان السجلات والوثائق التاريخية. كنتُ أواجه صعوبة في إجراء البحث في هذه الظروف وبالرغم من ذلك شعرتُ بضرورة إيجاد وسيلة فعالة تسهم في الحفاظ على هذا التراث وتمكين الآخرين من الوصول إليه.
في ذلك الوقت بدأتُ تعلم كيفية تصميم وهيكلة الأرشيفات والحفاظ عليها. وخلال فترة الإغلاق العالمي في عام 2020، أتيحت لي فرصة الاطلاع على أرشيف معرض والدتي في دمشق، الذي ضم آلاف الأعمال الفنية ومواد المعارض وسجلات المشتريات والصور الفوتوغرافية وقصاصات الصحف. كان بمثابة كنز من تاريخ الفن السوري، وأصبح الأساس لإطلاق أرشيف الفن السوري الحديث (ماسا).
لدينا اليوم خمس مجموعات أرشيفية متوفرة على منصة مصممة خصيصاً لتكون بمثابة مستودع معرفي قابل للبحث. تضم هذه المجموعات روابط إلكترونية ومواضيع بحثية توفر تجربة تفاعلية للمستخدمين. كما سيتم نشر مجموعة أخرى في وقت لاحق من هذا العام، وثلاث مجموعات إضافية في العام القادم.
ما قيمة إنشاء أرشيف محلي وإقليمي في العالم العربي، وما المواد المعرضة لخطر الفقدان في حال عدم إنشاء أرشيف محلي؟
لا تقتصر مهمة الأرشيف على حفظ السجلات، فبالرغم من أنني أنشئ أرشيفًا لتاريخ الفن، إلا أن ما يمثله هذا الأرشيف يتجاوز حدود تصنيفه الفني، فهو لا يمثل الأنشطة المتعلقة بمعرض والدتي فحسب، بل يعكس الحياة الاجتماعية والثقافية في سوريا خلال التسعينات وبدايات القرن الحالي. كما يقدم لمحة عن اهتمامات الناس ومخاوفهم والقضايا التي تمسّ حياتهم.
واجهت المجتمعات العربية خطر فقدان تاريخها أو ضياعه وتحريفه.
فإذا لم نتحمل مسؤولية توثيق قصصنا والحفاظ عليها، سنكون بصدد إفساح المجال للآخرين لتقديم تفسيراتهم ورؤيتهم الخاصة عنا. وأعتقد أن هذا الأمر يشكّل خطراً حقيقياً بإمكانه التأثير سلباً على ثقافة الأجيال القادمة.
يجب علينا أن نفهم ثقافتنا، ليس فقط لتوفير منظور دقيق وحقيقي للتاريخ، بل لكي نتمكن تصور المستقبل وبناءة. وأصبح هذا الأمر أكثر أهمية اليوم في ظل التشتت والبعد عن الوطن الذي يعيشه جيل كامل من السوريين. لذلك، يتوجب علينا تمكينهم من التعرف على جذورهم واستعادة شعورهم بالانتماء، وأعتقد أن الأرشيف يمثل وسيلة فعالة لتحقيق ذلك، إضافة إلى تعزيز إدراكنا وفهمنا لهويتنا وانتمائنا.
محمود حماد مع الطلاب، مركز الفنون التطبيقية، دمشق، 1964.
.المصدر: أرشيف محمود حماد، ماسا، أرشيف الفن السوري الحديث، مبادرة من مؤسسة أتاسي
هل هناك تشابه بين طريقة حفظ الأرشيف العائلي وحفظ المجتمعات للروايات الثقافية؟ كيف ترتبط الذاكرة الثقافية بالإرث العائلي؟
هناك تشابه واضح، فكلاهما يتعلق بالذاكرة والهوية والاستمرارية. في العائلة، يبدأ الأمر غالباً برواية القصص ومشاركة التجارب من جيل إلى آخر، عن طريق مشاركة الصور والرسائل والمقتنيات التراثية. وبالمثل، تبني المجتمعات رواياتها الثقافية عبر القصص والوثائق والمقالات الصحفية والصور الفوتوغرافية. في كلتا الحالتين، يجب وضع هذه المواد في سياق يمنحها المعنى من خلال السرد الشفهي أو البحث التاريخي المعمق.
أعتقد أن الرابطة بين العائلات والمجتمعات سيظل قائماً بشكل دائم على المستويات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، ولكن الحفاظ على تاريخ العائلة أو المجتمع لا يتطلب بالضرورة دافعاً معقداً. فقد تكفي في بعض الأحيان الرغبة البسيطة في فهم أحد الأجداد بشكل أعمق، أو استعادة الصلة بمكان أو زمان معين من خلال الذكريات.
ما يميز هذا الفضول الشخصي هو أنه كثيراً ما يقود إلى اكتشافات تلامس الآخرين بطرق مختلفة، فصورة واحدة قد تحمل معانٍ متعددة لأفراد العائلة نفسها أو للمجتمع، ما يُبرز قيمة الحفاظ على ماضينا ومشاركته.
ليلى نصير في كليّة الفنون الجميلة في القاهرة، الستينات.
المصدر: أرشيف ليلى نصير، ماسا، أرشيف الفن السوري الحديث، مبادرة من مؤسسة أتاسي.
كيف ترين مستقبل أرشيف الفن السوري الحديث، وما الذي يحتاجه الأرشيف المحلي أو الإقليمي ليستمر في ظل التغيرات الثقافية والتكنولوجية السريعة؟
تم إنشاء أرشيف الفن السوري الحديث لتوفير مرجع لكل من يدرس أو يتفاعل مع الفن السوري الحديث والمعاصر. وبينما يظل توسيع المحتوى جانباً مهماً، تبقى القيمة الحقيقية في ضمان تفعيله واستخدامه، فالأرشيف الذي لا يكون قيد الاستخدام يمكن أن يفقد أهميته مهما كانت قيمة محتوياته.
منذ البداية، قمنا بالتركيز على إتاحة الوصول إلى الأرشيف وتوفير محتوياته للجميع مجاناً، فلا يتطلب الوصول إليه التسجيل أو الضغط على روابط إلكترونية أو الاشتراك للاطلاع على موارده القيّمة. أعتقد أن هذا النهج مثالي لتوفير المعرفة للجميع، بما يتماشى مع نهج مؤسستنا.
نحتاج إلى أسلوب يجعل الاطلاع على الماضي تجربة جذابة للأجيال الحالية والقادمة من أجل الحفاظ على أهمية الأرشيف. نحقق ذلك من خلال إضفاء طابع شخصي على القصص بحيث تلامس زوار الأرشيف وتتيح لهم التواصل مع الماضي. كل قصة تحمل جانباً إنسانياً في جوهرها، ومن خلال تسليط الضوء على هذا الجانب، نحافظ على أهمية الأرشيف بالنسبة للباحثين وعامة المجتمع على حد سواء.
ما نصيحتك للمؤسسات أو العائلات التي تسعى للحفاظ على إرثها؟
لا يوجد نهج موحد للحفاظ على الإرث، فكل قصة تختلف عن الأخرى وتتطلب طريقة خاصة في الأرشفة.فالوثائق، سواء كانت صورًا أو مقاطع فيديو، ليست مجرد مواد أرشيفية، بل تعكس أيضًا أساليب أصحابها ووجهات نظرهم. ومع ذلك، يظل السرد القصصي هو الخيط المشترك العالمي الذي يمنح الأرشيف حياة ومعنى يتجاوز المادة نفسها.
في المقابل، هناك جانب واعتبارات عملية تتعلق بكيفية الحفاظ على الأرشيف وضمان نقل المعرفة وإيجاد صلة حقيقية أو طرق تمكن الأجيال القادمة من التفاعل مع الأرشيف.
فبناء الأرشيف ليس مهمة عابرة، بل التزام طويل الأمد يحتاج إلى واستمرارية، تماماً كما في سباق الماراثون.
تلقيت منذ البداية نصيحة من خبراء الأرشيف بعدم الاستهانة بأي مادة للنشر مهما بدت بسيطة، فقد تتحول قصاصة صغيرة من صحيفة إلى محور قصة كاملة. فبناء الأرشيف يشبه النظر إلى الحياة عبر مجهر، وما يبدو غير مهم في البداية قد يكتسب مع الوقت والسياق معنى عميقاً.
تاريخ النشر: 27-نوفمبر-2025
ضيف
شيرين أتاسي، مديرة مؤسسة أتاسي
شيرين أتاسي هي شخصية رائدة في دعم الفن السوري، وتشغل منصب مديرة مؤسسة أتاسي في دبي، وهي مؤسسة غير ربحية أسستها عائلتها في 2015. بخبرة تمتد 18 سنة في الشركات الكبرى وماجستير في إدارة الأعمال من جامعة من إمبريال كوليدج لندن، تُسهم شيرين في منصبها بفطنة استراتيجية وبصيرة تجارية. في ظل قيادتها، تقوم المؤسسة بحفظ وتعزيز الإرث الإبداعي السوري، بالإضافة إلى دعم الفنانين معاصرين. كما تسهم شيرين في دعم المجتمع الفني من خلال عملها كعضو مجلس إدارة في منظمة آرت إيست في نيويورك، ودورها كمرشدة للفنانين الناشئين.
